فصل: فائدة عظيمة النفع لِلتَّوحِيد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل فِي لَطَائِفِ البَلايَا وفوائِدِها:

قال ابنُ رجب رحمه اللهِ: مِن لَطَائِفِ البَلايَا وفوائِدِها تكفيرُ الخطايا بها والثواب على الصبر عليها، وهل يثاب على البلاء نَفْسِهِ، فيه اختلاف بين العلماء.
ومنها: تذكير العبد بذنوبه فربما تاب ورجع منها إلى الله عز وجل.
ومنها: زوالُ قسوة القلوب وحدوثُ رقَّتِها. قال بعضُ السلف إن العبدَ لَيُمْرضُ فيذكرُ ذُنُوبَهَ فَيَخْرُجَ منه مثلُ رَأَسِ الذباب من خشيةِ اللهِ فيغفرُ له.
ومنها: انْكِسارُهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَ وذِلَّهُ وذلك أَحَبُ إلى اللهِ مِن كثيرٍ مِن طاعاتِ الطائعين.
ومنها: أنها تُوجِبُ لِلعبدِ الرجُوعَ بِقلبه إلى الله عز وجل والوقوفَ ببابه والتضرعَ لَهُ والاستكانة وذلك مِن أعظَمِ فوائِدِ البَلاءِ وقد ذَمَّ اللهُ مَن لا يَسْتكينُ لَهُ عند الشدائد.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42].
وفي بعضِ الكتبِ السابقةِ: إِن الله لَيبتلِي العبدَ وهو يُحبُّه لِيَسْمَعَ تَضَرُعَه.
وقال سعيدُ بنُ عبد العزيز قال داودُ عليه السلام: سبحانَ مُستخرجِ الدعاء بالبَلاء وسبحانَ مُستخرجِ الشكرِ بالرَّخَاءِ.
ومَرَّ أبو جعفر محمدُ بنُ علي بمحمدِ بن المنكدر وهو مَغْمُومٌ فسأل عن سبب غمه فقيل له: الديْنَ قَد فَدحَه. فقال أَبو جعفر: أفِتحَ له في الدعاء؟ قِيلَ: نعم، قال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر منها من دعاء ربه كائنه ما كانت. وكان بعضهم في الدعاء عند الشدائد يحب تعجيل إجابته خشية أن يُقطع عما فتح له.
وقال ثابت: إذا دعا الله المؤمنُ بدعوة وكلَّ الله جبريل بحاجته فيقول الله: لا تعجل بإجابته فإني أحب أن أسمعَ صوتَ عبدِي المؤمن.
وَرُوِيَ مرفوعًا من وجوه ضعيفة: رأى بعضُ السلف رب العزة في نومه فقال: يا رب كم أدعوك ولا تجيبني. قال: إني أحب أن أسمع صوتك. ومنها أن البلاء يوصل إلى قلبه لذة الصبر عليه أو الرضا به وذلك مقام عَظِيم جدًا. وقد تقدمت الإشارة إلى فضل ذلك وشرفه. ومنها أن البلاء يقطع قلب المؤمن عن الإلتفات إلى المخلوق ويوجب له الإقبال على الخالق وحده.
وقد حكى الله عن المشركين إخلاص الدعاء له عند الشدائد فكيف بالمؤمنين.
لَحَىَ الله مَنْ لا يَعْبُدُ الله وَحْدَهُ ** ومَنْ حَبْلُهُ في الدِّينْ غَيرِ مَتِينِ

ومَن هُو ذُوْ لَوْنَيْنِ شَرُّ مُنَافِقٍ ** ومَنْ هُو للأسْرَارِ غير مَكِين

والبلاء يوجب للعبد تحقيق التوحيد بقلبه وذلك على أعلى المقامات وأشرف الدرجات.
وفي الإِسرائيليات يقول الله عز وجل: البلاء يجمع بيني وبينك والعافية تجمع بينك وبين نفسك.
وإذا اشتد الكرب وعظم الخطب كان الفرج حينئذٍ قريبًا في الغالب. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف 110].
وقال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة 214].
وأخبر عن يعقوب عليه السلام أنه لم ييأس من لقاء يوسف وقال لإخوته: {اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ}. وقال: {عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} [يوسف 83].
ومن لطائف أسرار اقتران الفرج باشتداد الكرب، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وجُدِ الإِياس من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق استجاب له وكشف عنه.
فإن التوكل هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين كما قال الإمام أحمد. واستدل عليه بقول إبراهيم عليه السلام لما عرض عليه جبريل في الهواء وقال له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.
والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج فإن الله يكفي من توكل عليه كما قال: {مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق 3].
قال الفضيل والله ولو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك كما تريد، قال بعضهم:
قَالُوا حُظُوضٌ وَأَقسَامٌ فقُلَتُ لَهُمْ ** نَعَمْ ولَكِنْ عَلَيْنَا السَّعْيُ والطَّلَبُ

ولِلْمَطَالِبِ أَسْبَابٌ مُقَدَّرةٌ ** وَبَذْلُ سَعيِكَ في مَطْلُوبِكَ السَّبَبُ

آخر:
عَلامَ سُؤَالُ الناسِ والرِّزْقُ وَاسعٌ ** وأَنْتَ صَحِيحٌ لم تَخُنْكَ الأصَابعُ

فَكُنْ طَالِبًا لِلرِّزْقِ من رَازِقِ الغِنَى ** وخَلِّ سُؤالَ الناسِ فالله صَانِعُ

ومنها: أن العبد إذا اشتد عليه الكرب فإنه يحتاج حينئذٍ إلى مجاهدة الشيطان لأنه يأتيه فيقنطه ويسخطه فيحتاج العبد إلى مجاهدته ودفعه فيكون في مجاهدة عدوه ودفعه دفع البلاء عنه.
ولهذا في الحديث الصحيح: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي فيدع الدعاء».
ومنها: أن المؤمن إذا استبطأ الفرج وأيس منه ولاسيما بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر له أثر الإِجابة رجع إلى نفسه باللائمة ويقول لها: إنما أُتِيتُ من قِبلِك ولو كان فيك خير لأجبت.
وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله. على قدر الكسر يكون الخير.
قال وهب: تعبد رجل زمانًا ثم بدت له إلى الله حاجة فصام سبعين سبتًا يأكل في كل سبت أحد عشرة تمرة ثم سأل الله حاجته فلم يعطها فرجع إلى نفسه فقال منك أُتيت، لو كان فيك خير لأعطيت حاجتك.
فنزل إليه عند ذلك ملك فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك.
أهين لهم نفسي لكي يكرمونها ** ولن تكرم النفس التي لا تهينها

فمن تحقق هذا وعرفه وشاهده بقلبه علم أن نعم الله على عبده المؤمن في البلاء أعظم من نعمه عليه في الرخاء.
وهذا تحقيق معنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وليس ذلك إلا للمؤمن».
ومن ها هنا كان العارفون بالله لا يختارون إحدى الحالتين على الأخرى بل أيهما قدر الله رضوا به وقاموا بعبوديته اللائقة.
وفي المسند، والترمذي عن أبي أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «عرض علي ربي بطحاءِ مكة ذهبًا فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإن جعت تضرعت إليك وذكرتك وإن شبعت شكرتك وحمدتك».
قال عمر: ما أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره. وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر.
وَكَنُ بالذي قد خَطَّ باللوح رَاضِيًا ** فلا مَهْرَبٌ مِمَّا قَضَاهُ وَخَطَّهُ

وإنَّ مَعَ الرِزْقِ اشْتراطُ التِمَاسِهِ ** وقد يَتَعَدَّى إن تَعَدَّيْتَ شَرْطَهُ

فلو شاء ألْقَى في فِمَ الطيْرَ قُوتَهُ ** ولكنَّّهُ أوْحَى إلى الطَّيْرِ لَقْطَهُ

.فائدة عظيمة النفع لِلتَّوحِيد:

التَّوحِيدْ مَفْزَعُ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَوْلِيائِهِ فَأمَّا أَعْدَاؤُه فيُنجِيهِم مِن كربِ الدنيا.
قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وَأَمَّا أَوْلِيَاؤُهُ فَيُنَجِيهِم بِهِ مِن كربِ الدنيا والآخرة وَشدَائدِها.
ولِذَلِكَ فَزِعَ إِليه يُونُسُ فنجَّاه الله مِن تِلكَ الظُلماتِ وفَزِعَ إِليهِ أَتْبَاعُ الرُسُل فنجَو به مِمَّا عَذَّبَ بِِهِ المشركون في الدنيا وما أَعَدَّ لَهُمْ في الآخِرة.
ولما فَزِعَ إِليه فِرْعون عندَ مُعَايَنة الهَلاك وإدْرَاكِ الغَرقِ لَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ.
لأِنَّ الإِيمانَ عِنْدَ المعاينة لا يُقْبَل هذه سنة الله في عِبادِهِ.
فما دُفِعَتْ شَدَائِدُ الدنيا بِمِثْلِ التَّوْحِيدْ.
ولذلِكَ كَان دُعَاء الكَرْبِ التوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فَرَّج اللهُ كَرْبَهُ بالتوحيد.
فلا يُلْقِي في الكرَبِ العَظائم إلا الشِّرك، ولا يُنْجِي منها إلا التوحيد، فهو مَفْزعُ الخَلِيقَةِ ومَلْجَؤهَا وحِصْنُها وغِيَاثُها.
عَلَيْكَ بِتَوحِيدِ الإِله فَإِنَّهُ ** نَجَاةٌ فَلا تُهْمِلْ كَلامي وَخُذْ بِه

أذَلّ الحَرْصُ والطّمَعُ الرِّقابَا ** وقَد يَعْفو الكَريمُ إذا اسْتَرَابًا

إذا أتَّضَحَ الصّوابُ فلا تَدَعْهُ ** فإِنّكَ قَلّمَا ذُقتَ الصَّوابًا

وَجَدْتَ لَهُ على اللَّهَواتِ بَرْدًا ** كَبَرْدِ الماءِ حِينَ صَفَا وطابًا

ولَيس بحاكِمٍ مَنْ لا يُبَالي ** أأخطَأ في الحُكُومَةِ أَمْ أصابًا

وإن لِكُلِّ تَلْخِصٍ لَوجْهًا ** وإنَّ لِكُلّ ذِي عَمَلٍ حِسَابًا

وإنَّ لِكُلِّ مُطّلَع لَحَدا ** وإنَّ لِكُلّ ذِي أجَلٍ كِتابًا

وكُلُّ سَلامَةٍ تَعِدُ المنَايَا ** وكُلُّ عِمارَةٍ تَعِدُ الخَرابًا

وكُلُّ مُمَلَّكٍ سَيَصِيرُ يَوْمًا ** وما مَلَكَتْ يَدَاهُ مَعًا تُرابًا

أَبَتْ طَرَفَاتُ كُلِّ قَريرِ عَين ** بها إلا اضْطِرابًا وانْقِلابًا

كَأَنَّ مَحَاسِنَ الدّنْيا سَرابٌ ** وأيُّ يَدٍ تَنَاوَلتِ السرَّابًا

وإنْ يَكْ مُنْيَةٌ عَجِلَتْ بِشَيءٍ ** تُسَرُّ به فإِنَّ لَهَا السَّرابًا

فَيا عَجَبًا تَمُوتُ وأَنتَ تَبْني ** وتَتَّخِذ المَصَانِعَ والقِبابًا

أَرَاكَ وكُلَّمَا فَتَّحْتَ بَابًا ** مِنَ الدّنْيا فَتَحْتَ عَلَيْكَ نَابًا

ألمْ تَرَ أنّ غُدْوَةَ كُلِّ يَوْمٍ ** تَزِيدُكَ مِن مَنِيَّتِكَ اقْتِرَابًا

وحُقّ لِمُوقِنٍ بالمَوْتِ أَنْ لا ** يُسَوِّغَهُ الطَّعامَ ولا الشّرَابًا

يُدَبِّرُ ما تَرَى مَلِكٌ عَزِيزٌ ** بِهِ شَهِدَتْ حَوادِثُهُ وغَابًا

أَلَيْسَ اللهُ في كُل قَريبًا؟ ** بَلَى! مِن حَيثُ مَا نُودِي أَجَابًا

ولم تَرَ سَائِلاً لِلَّهِ أَكْدَى ** ولمْ تَرَ راجِيًا لِلَّهِ خَابًا

رَأَيْتَ الرُّوحَ جَدْبَ العَيشِ لَمَّا ** عَرفتَ العَيشَ مَخْضبًا واحْتِلابًا

وَلسْت بِغَالِب الشَّهَوَاتِ حَتَّى ** تُعِدَّ لَهُنَّ صَبْرًا واحْتِسَابًا

فَكُلُّ مُصِيبَةٍ عَظُمَتْ وَجَلّتْ ** تَخِفُّ إذا رَجَوْتَ لَها ثَوَابًا

كَبرنا أَيُّهَا الأَتْرابُ حتى ** كأنا لم نَكُنْ حِينًا شَبَابًا

وَكَنَّا كالغُصُونِ إذا تَثَنَّتِ ** مِنَ الرّيحانِ مُونِعَةً رِطَابًا

إلى كَمْ طُولُ صَبْوتَنا بِدارٍ ** رَأْيَتَ لها اغْتِصابًا واسْتِلابًا

ألا ما لِلكُهُولِ ولِلتَّصَابِي ** إذا مَا اغْتَرَّ مُكْتَهِلٌ تَصَابَى

فَزعْتُ إلى خِضَابِ الشّيِبِ مِنّي ** وإنَّ نُصُولَهُ فَصَحَ الخِضَابَا

اللَّهُمَّ يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ يا حيُّ ويا قيُّوم فَرِّغْنَا لما خَلَقْتَنَا له، ولا تُشْغِلْنَا بما تَكَفَّلْتَ لنا به واجعلنا مِمَّن يُؤمِنُ بلقَائِك ويَرْضَى بقَضَائِك، ويقنعُ بعطائك ويخشَاكَ حَقَّ خَشْيَتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.حكم وفوائد:

قال أحدُ العُلَمَاءِ: لا يَكُنْ همُّ أحدِكم في كثرةِ العَمَل، ولكن ليكن هَمُّه في إحكامِهِ وإتقانِهِ، وتحسينِهِ؛ فإن العبدَ قد يُصَلِّي وهو يَعْصِي الله في صلاتِهِ، وقد يَصومُ وهو يَعْصِي الله في صِيامِهِ.
وقِيل لآخر: كيفَ أصْبَحتَ؟ فبكى، وقال: أَصْبَحتُ في غفْلةٍ عن الموتِ مَعَ ذُنُوبٍ كثيرةٍ قد أحَاطَتْ بِي وأجلٍ يُسْرِعُ كُلَّ يومٍ في عُمُري، ومَوئْل لَسْتُ أدْرِي علامَا أَهْجِمُ ثم بَكَى.
وقال آخر: لا تَغْتَم إلا مِن شيءٍ يَضُرُكَ غَدًا، أَيْ في الآخرة، ولا تَفْرَحْ بشيءٍ لا يَسرُكَ غدًا، وأنفعُ الخوفِ ما حَجزَكَ عن المعاصي، وأطالَ الحُزْنَ مِنْكَ على ما فاتَكَ مِن الطاعِة، وألْزَمَكَ الفِكْرَ في بَقيةِ عُمُرِكَ.
وقال آخر: عليكَ بصُحْبةِ مَن تُذَكِّرُكَ اللهَ عزَّ وَجَلَّ رُؤيَتُهُ، وتَقَعُ هَيْبَتُه على باطِنِكَ، ويَزيُدُ في عَمَلِكَ مَنْطِقُه.
ويُزَهِّدُكَ في الدنيا عَمَلهُ، ولا تَعْصِي اللهِ مادُمْت في قُرْبِهِ يَعِظكَ بلِسانِ فِعْلِهِ ولا يَعِظُكَ بِلِسانِ قَوْلِهِ.
قال إسرافيل: حَضَرتُ ذِي النون المِصِري وهو في الحَبْسِ وقد دَخَلَ الشُرطِيُّ بِطعامٍ لَهُ فقامَ ذُو النونِ فَنَفَضَ يَدَهُ، أيْ قَبضها عن الطعام.
فقيل له: إن أخاك جَاءَ به، فقال: إنه على يَدَيْ ظالم، وقَالَ بعضُهم يُوبِّخُ نَفْسَهُ وَيَعِظُها: يا نَفْسُ بادِرِي بالأوقاتِ قبلَ انْصِرامها، واجْتَهدي في حَراسَةِ لَيَالي الحَياةِ وأَيَّامِهَا.
فكأنَّكِ بالقُبورِ قد تَشَقَّقَتْ، وبالأمُوُر وقد تَحَقَّقَتْ، وبِوجُوُه المتقينَ وقد أشْرَقَتْ، وبرُؤُوسِ العُصَاةِ وقدَ أَطْرَقَتْ قال تعالى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} يا نفس أمَّا الوُّرعون فقد جَدَّوا، وأما الواعظُون فقد نَصَحُوا. انْتَهى.
واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِِهِ وَسَلَّمَ.

.فَصْل في الأمور التي ينظر إليها صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة:

اعلَمْ أنَّ صَاحِبَ البصِيرةِ إذا صَدَرَتْ منه الخَطِيئةُ فلهُ نَظَرٌ إلى أُمور:
أَحَدُهَا: أنْ ينظرَ إلى أمرِ اللهِ ونَهْيِهِ فيُحْدِثَ له ذلك الاعترافَ بكونِهَا خَطِيئَةً، والإِقْرَارَ على نفسِه بالذَنْب، والثاني: أنْ ينظرَ إلى الوعدِ والوعيدِ فيُحِدَث له ذَلِكَ خوفًا وخشْيةً تحْمِلُهُ على التوبةِ، والثالثُ: أَنْ يَنْظُرَ إلى تَمْكِينِ اللهِ لَهُ مِنهَا وَتَخْلِيَتِهِ بَيْنَه وَبَيْنَها وَتَقْدِيرِها عليه وأنه لو شاء لَعَصَمَهُ مِنْهَا فَيُحْدثَ له ذلك أنواعًا مِنَ المعرفِة باللهِ وأسمائِهِ وصِفَاتِهِ وحِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ وعَفوِهِ وحِلمِهِ وكرمِِهِ وتوجبُ له هذه المعرفةُ عُبوديةً بهذه الأسماءِ لا تحصُلُ بِدُونِ لَوَازِمِهَا البَتَّةَ وَيَعْلَمُ ارتباطَ الخلق والأمرِ والجزاءِ والوعْدِ والوعيدِ بأسمائِهِ وصِفَاتِهِ وأنَّ ذلك بموجبِ الأسماءِ والصفاتِ وأثرها في الوجودِ وأنَّ كلَ اسم وصِفةٍ مُقْتَضٍ لأثَرهِ وَمُوجِبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ لابد منه.
وَهَذَا المَشْهَدُ يُطْلِعُهُ على رِياضٍ مُونِقَةً مِن المَعَارِفِِ والإيمانِ وأسْرَارِ القَدَرِ والحِكمَةِ يَضِيقُ عن التعبيرِ عنها نِطاقُ الكَلِمِ فَمِنْ بَعضِهَا ما ذكره الشيخُ يُريدُ صاحِبَ المنازلِ: أنْ يَعْرِفَ العبدُ عِزَّتَهُ في قَضَائِهِ وَهُوُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ العَزِيز الذي يَقْضِي بما يشاءُ وأنه لِكمالِ عزتِهِ حَكَمَ على العبدِ وقضى عليهِ بأنْ قلبَ قَلْبِهُ وصرَّفَ إرَادَتَه على ما يَشَاءُ وحالَ بين العَبْدِ وقلبِهِ وَجَعَلَهُ مُريدًا شائِيًا لِمَا شَاءَ مِنْهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ وهذا مِنْ كَمالِ العِزَّةِ، إذْ لا يَقْدِرُ عَلى ذلِكَ إلا اللهُ وغايةُ المَخْلُوقِ أَنْ يَتَصَرَّفَ في بَدَنِكَ وظاهِرِكَ، وأمَّا جَعْلُكَ مُرِيدًا شائيًا لِمَا يَشَاؤُهُ مِنْكَ وَيُرِيدُهُ فلا يَقْدرُ عليهِ إلا ذُو العِزَّةِ البَاهِرَةِ.
فإذا عرف العبدُ عِزَّ سيدِهِ ولا حظَ بقلبِهِ وتمكَّنَ شهودُهُ مِنْهُ كان الاشتغالُ بهِ عن ذُلِّ المَعصيةِ أولى بهِ وأنفعَ له لأِنَّهُ يَصِيرُ مَعَ اللهِ لا مَعَ نَفْسِهِ، ومِنْ مَعْرِفِة عِزتِهِ في قَضَائِهِ أنْ يَعْرِفَ أنه مُدَبَّر مَقْهُورٌ ناصيتُهُ بِيدِ غيرِهِ لا عِصْمَةَ لَه إلا بِعِصْمَتِهِ ولا تَوفيقَ له إِلا بِمَعُونَتِهِ فهُوَ ذَليلٌ حقيرُ في قبضةِ عَزيزٍ حميدٍ.
وَمِنْ شُهودِ عزَّتِهِ في قَضَائِهِ أنْ يَشْهَدَ أنَّ الكَمَالَ والحَمْدَ والغِنَى التامَّ والعزةَ كلهَا لِلهِ وأنَّ العَبْدَ نَفْسَهُُُ أوْلى بالتقصيرِ والذمِ والعَيبِ والظُلمِ والحَاجةِ وكُلَّمَا ازدادَ شُهودُهُ لِذِلّهِ وَنَقْصِهِ وَعَيْبِهِ وَفَقْرِهِ ازدادَ شهودُهُ لِعزَّةِ اللهِ وَكَمالِهِ وَحَمْدِهِ وَغِنَاهُ وكذلك بالعكسِ فنقْصُ الذنْبِ وذِلتُهُ يُطْلعُهُ على مَشْهَدِ العِزّةِ.
ومنها: أن العبدَ لا يُريدُ مَعْصِيَةَ مَوْلاهُ مِنْ حَيثُ هِيَ مَعْصِيةٌ فإذا شَهِدَ جَرَيَانَ الحُكْمِ وَجَعْلَهُ فَاعلاً لِمَا هُوَ مُختارٌ، له مُرِيدًا بإرَادتِهِ وَمَشيئِتِه واختيارِهِ فكأنَهُ مُخْتَارٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ مُرِيدٌ شاءٍ غيرُ شاءٍ فهذا يَشْهَدُ عِزةَ اللهِ وعَظَمَتَهُ وكَمَالَ قُدْرَتِهِ.
أَحْسِنْ بربِّك ظَنًا إنَّهُ أَبَدًا ** يَكْفي المُهِمَّ إِذا مَا عَزَّ أَوْ نابًا

لا تَيأَسَنَّ لِبَابَ سُدَّ في طَلَبٍ ** فالله يَفْتَحُ بَعْدَ البَابِ أَبْوابًا

ومِنْ ذلك أن يَعرفَ بِرَّهُ سبحانَه في سَتْرِهِ عليهِ حالَ ارتكابِ المعصيةِ معَ كمالِ رؤيتِهِ لهُ ولو شاء لَفَضَحَهُ بينَ خَلْقِهِ فَحَذِرُوه وهذا مِن كمالِ بِرِّهِ ومِنْ أسمائِه البَرُّ، وهذا البرُّ من سيدِهِ كان عن كمالِ غِنَاهُ وَكمالِ فقْرِ العبدِ إليهِ فيشتغلُ بمطالعَةِ هذه المِنةَ وَمُشَاهَدَةِ هَذَا البِرِّ والإحسانِ والكرم فيَذهَلُ عن ذِكرِ الخَطِيئَةِ فَيَبْقَى مَعَ اللهِ سبحانه وذلك أَنْفَعُ لهُ مِن الاشتغالِ بجنايَتِهِ وَشُهُودِ ذُلِّ المَعْصِيَةِ فإنَّ الاشْتِغَالَ باللهِ والغَفْلةَ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ المَطْلَبُ الأعلى والمقصَد الأسْنَى.
ومنها: شُهودُ حِلْمِ اللهِ سبحانه وتعالى في إمْهَالِ رَاكِبِ الخَطِيئَةِ مُطْلقًا ولو شاءَ لَعاجَلَه بالعُقُوبَةِ ولكِنَهُ الحَلِيمُ الذي لا يَعْجَلُ فَيُحْدِثُ له ذلك مَعْرِفةَ رَبِهِ سبحانه باسْمِهِ الحليمِ ومُشَاهَدَةَ صفةِ الحِلْمِ والتَّعَبُدِ بهذا الاسمِ. والحكمةُ والمصلحةُ الحاصلةُ ومن ذلك بتوسّطِ الذَنْبِ أحبُّ إلى اللهِ وأصلحُ للعبدِ وأنفَعُ من فَوْتِها، ووجودُ الملزومِ بدونِ لازمِهِ مُمْتَنِعٌ ومنها مَعْرِفَةُ العَبْدِ كَرَمَ رَبِهِ في قُبولِ العذرِ منه إذا اعتذرَ إليهِ بنحْوِ ما تقدم مِن الاعتذارِ لا بالقَدَرِ فإنه مخاصَمَتُه وَمُحَاجّة.
ومنها: أنْ يَشهدَ فضلَهُ في مَغفرتِهِ فإن المَغْفِرَةَ فضْلٌ مِن اللهِ وإلا فَلَو أَخَذَ بمحْض حَقِّهِ كان عادِلاً مَحْمُودًا.
وإِنَّمَا عَفْوُهُ بِفَضْلِهِ لا باسْتِحْقاقِكَ فَيُوجِبُ ذَلِكَ شُكرًا وَمَحَبةً وإنابَةً إليه وفَرَحًا وابْتِهَاجًا بِهِ ومَعْرِفَةً لَهُ باسْمِهِ الغَفَّارِ وَمُشَاهَدَةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ وَتَعَبُّدًا بِمُقْضَاهَا وَذَلِكَ أَكْمَل ُفي العُبُودِيَّةِ والمَحَبَّةِ والمَعْرِفَة.
وَمِنْهَا: أَنْ يُكْمِلَ لِعبدِهِ مَرْتَبَةَ الذُلِ والخُضُوعِ والانْكِسَارِ بَينَ يَدَيْهِ والافتقارِ إِليه.
إِنِّ الشَّرَائِعَ أَلْقَتْ بَيْنَنَا حِكَمًا ** وَأَوْرَثَتَنَا أَفَانِينَ المُوَدَّاتِ

وَهَلْ رَأيْتَ كَمِثْلِ الدِّينِ مَنْفَعَةً ** لِلْعَبْدِ تُوصِلُهُ أَعْلَى الكَرَامَات

اللَّهُمَّ أَيْقظَ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْمَعْرفَةَ بكَ عَنْ بَصِيرَةً وَأَلْهِمَنَا ذِكْرَكَ وَشُكْركَ وَوَفّقْنَا لِطَاعَتِكَ وامْتِثَالِ أَمْرِكْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَصْلٌ:
ومنها: أنَّ أَسْمَاءَ الربِ تَقْتَضِي آثارَها اقْتضاءَ الأَسْبَابِ التَّامَّةِ لِمُسبَّباتِها فاسمُ السميعِ البصيرِ يَقْتَضِي مسْمُوعًا وَمُبْصرًا واسْمُ الرَّزَّاقِ يَقْتَضِي مَرْزُوقًا واسْمُ الرحيمِ يَقْتَضِي مَرْحُومًا وكذلك أسماء: الغَفورِ، والعَفُوِّ، والتوابِ، والحَليم، يَقْتَضِي مَنْ يَغْفِرُ لَهُ وَيَتُوبُ عليه وَيَعْفو وَيَحْلُم وَيَسْتَحِيلُ تَعْطِيْلُ هَذِهِ الأسْمَاءِ والصفاتِ إذْ هِيَ أَسْمَاءٌ حُسْنَى وَصِفَاتُ كَمَالٍ وَنُعوتُ جَلالٍ وأَفعالُ حِكمةٍ وإحسانٍ وَجُودٍ فلابد مِن ظهورِ آثارِها في العالَم.
وإلى هذا أشار أعلمُ الخلقِ باللهِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهِ حيثُ يَقولُ «لو لم تُذْنبوا لذهب الله بكمْ وَلَجَاء بقوم يُذْنِبُونَ ثم يسْتَغْفرُونَ فَيَغْفِرُ لهم» وأَنْتَ إذا فرضْتَ الحيوان بجُمْلَتِهِ مَعْدُومًا فَمَنْ يَرْزُقُ الرَّزَّاقُ سبحانه وإذا فَرَضَتْ المَعْصِيَةَ والخَطِيئَةَ مُنْتَفِيةً عن العالَم فلِمَنْ يغفرُ؟ وعمَّنْ يَعْفُو؟ وعلى مَن يتوبُ وَيَحْلَم؟ وإذا فرضْتَ الفاقات كُلَها قد سُدَّتْ والعبيدَ أغنياءَ مُعَافِين فأَيْنَ السُؤالُ والتَّضَرُّعُ والابْتِهَالُ والإِجَابةُ وَشُهودُ المنةِ والتخصيصُ بالإنعام والإكرامِ فسُبْحانَ مَنْ تَعرَّف إلى خَلقِهِ بجميعِ أنواعِ التعرّفاتِ وَدَلّهم عليه بأنواعِ الدلالاتِ. انتهى.
دَع المَعَاصِي عَنْكَ في مَعْزلٍ ** وتُبْ إلى مَن هو نِعْمَ الغِيَاثْ

فليْسَ يُحْظَ بِجَدِيد الرّضَا ** عَبْدٌ عَلَيه حَسَنَاتٌ رِثَاثْ

آخر:
وذُقْتُ مَرَارةَ الأشْيَاطُرًا ** فما طَعْمٌ أَمَرّ مِنَ المعَاصِي

آخر:
حَتَّى مَتَى تُسْقَى النُفوسُ بكأسِها ** رَيْبَ المَنونِ وأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ

عَجَبًا لأَمْنِكَ والحَيَاةُ قَصِيرَةٌ ** وَبِفَقْدِ إلفٍ لا تَزَالُ تُرَوَّعُ

أَفَقَدْ رَضِيتَ بأنْ تُعلّلَ بالمُنَى ** وإِلَى المنِيَّةِ كُلَّ يَومٍ تُدْفَعُ

لا تَخْدعَنَّكَ بَعْدَ طُولِ تَجارُبٍ ** دُنْيًا تَغُرُّ بوصْلِهَا وسَتُقْطَعُ

أَحْلامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَايلٍ ** إِنّ اللَّبيبَ بِمِثْلِها لا يُخْدَعُ

وَتَزَوَّدَنَّ لِيَومَ فَقْرِكَ دَائِمًا ** أَلِغَيْر نَفْسِكَ لا أَبَا لَكَ تَجْمَعُ

آخر:
يا عَبْدُ كَمْ لَكَ مِن ذَنْبٍ وَمَعْصِيةٍ ** إنْ كُنْتَ نَاسِيهَا فالله أحْصَاها

يا عَبْدُ لابد مِنِ يومٍ تَقَوم لَهُ ** وَوَقْفَةٍ لَكَ يُدْمِي الكَفَّ ذِكْرَاها

إذَا عَرَضْتُ على نَفسي تَذكُرَهَا ** وَسَاءَ ظنَّي قُلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ

آخر:
ما زُخْرُفُ الدُّنْيَا وزُبْرُجُ أَهْلِهَا ** إلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ

ولَرُبَّ أَقْوَام مَضَوا لِسَبِيلِهمْ ** ولَتمضِينَّ كَمَا مَضَى الأقْوَامُ

ولَرُبَّ ذِي فُرشٍ مُمَهَّدَة لَهُ ** أَمْسَى عَلَيْهِ مِن التُّرَابِ رُكَامُ

والموتُ يَعمل والعُيونُ قَريرةٌ ** تلْهُوا وتَلْعَبُ بالمنَى وتَنَامُ

كُلٌ يَدُورُ على البَقَاء مُؤَملاً ** وَعَلى الفَنَاءِ تُدِيرُهُ الأيامُ

والدَّائِمُ الملكوتِ رَبٌ لم يَزَلْ ** مَلِكًا تَقَطَّعُ دُونَهُ الأوهَامُ

فالحمدُ لله الذِي هُوَ دَائِمٌ ** أَبَدًا ولَيْسَ لِمَا سواهُ دَوَامُ

اللَّهُمَّ اعْتقْنَا مِن رقِّ الذُّنُوبْ، وخَلِّصْنَا مِن أَشَرِ النُّفوسْ، وأَذْهِبْ عَنَّا وَحْشَةَ الإِسَاءَةْ وطَهِّرْنا مِن دَنَسِ الذُّنُوبَ، وباعِدْ بَيْنَنا وبَيْنَ الخَطَايَا وأجِرْنا مِن الشيطان الرجيم.
أَقُولٌ وطَرْفي غَارقٌ بِدُمُوعِهِ ** لِمَا قَدْ جَرَى لِي في الذُنُوب تَمادِي

فَهَلْ مِن تَلافي سَاعَةٍ أَشْتَفِي بهَا ** أُجَدِّدُ فيهَا تَوْبَةَ بِسَدَادِ

وأَسْأَلُ مَوْلاي القَبُول لِدْعوتِيْ ** فَغَايَةُ سُؤْلي هَذِهِ وَمُرَادِي

آخر:
يا أَيُهَا الزاهِدُ بالزُّهْدِ ** عَرِّجْ مِن الهَزْلِ إلى الجِدِّ

فَبَعْدَ نُورِ الشَيْبِ لا يُرْتَجى ** لِلْمَرءِ إِلا ظُلْمَةُ اللّحْدِ

فاحْتَلْ مِن التَّوبةِ في أجْرِه ** إن شِئْتَ سُكْنى جَنّةِ الخُلْد

اللَّهُمَّ يا فالقَ الحب والنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إِليْه، يا كَافِي المُتَوَكِّلينَ عليه، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَتِ الظُنُونُ إلا فِيكَ، وضَعُفَ الاعْتمادُ إِلا عَلَيْكَ نسألُكَ أنْ تُمْطَرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا مِن سَحائِبِ بِرِّكَ وإحْسَانِكْ وأَنْ تُوِفقَّنا لِمُوجِباتِ رَحْمَتِكَ وعَزَائِم مَغفرتِكَ إنكَ جَوادٌ كريم رؤوفٌ غفور رحيم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ.